الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
فَيَسْمَعُ الْغِرُّ التَّمَازُجَ وَالْوِصَالَ فَيَظُنُّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَفْسُ كَوْنِ الْعَبْدِ. فَلَا يَشُكُّ أَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةُ الطَّرِيقِ. ثُمَّ لِنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ.قَوْلُهُ: يُدْرِجُ حَظَّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ.الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ: أَنَّ مَنْ تَمَكَّنَ فِي قَلْبِهِ شُهُودُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَصَفَا لَهُ عِلْمُهُ وَحَالُهُ: انْدَرَجَ عَمَلُهُ جَمِيعُهُ وَأَضْعَافُهُ وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهِ فِي حَقِّ رَبِّهِ تَعَالَى وَرَآهُ فِي جَنْبِ حَقِّهِ أَقَلَّ مِنْ خَرْدَلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِبَالِ الدُّنْيَا. فَسَقَطَ مِنْ قَلْبِهِ اقْتِضَاءُ حَظِّهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَيْهِ. لِاحْتِقَارِهِ لَهُ، وَقِلَّتِهِ عِنْدَهُ، وَصِغَرِهِ فِي عَيْنِهِ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا صَالِحٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ: يَا دَاوُدَ، أَنْذِرْ عِبَادِيَ الصَّادِقِينَ. فَلَا يُعْجِبُنَّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَتَّكِلُنَّ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي أَنْصِبُهُ لِلْحِسَابِ، وَأُقِيمُ عَلَيْهِ عَدْلِي إِلَّا عَذَّبْتَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ أَظْلِمَهُ. وَبَشِّرْ عِبَادِيَ الْخَطَّائِينَ: أَنَّهُ لَا يَتَعَاظَمُنِي ذَنْبٌ أَنْ أَغْفِرَهُ وَأَتَجَاوَزَ عَنْهُ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا سَيَّارٌ حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ: تَعَبَّدَ رَجُلٌ سَبْعِينَ سَنَةً. وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: رَبِّ اجْزِنِي بِعَمَلِي. فَمَاتَ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ. فَكَانَ فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا. فَلَمَّا فَرَغَ وَقْتُهُ، قِيلَ لَهُ: اخْرُجْ، فَقَدِ اسْتَوْفَيْتَ عَمَلَكَ، فَقَلَّبَ أَمْرَهُ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ؟ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ دُعَاءِ اللَّهِ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ. فَأَقْبَلَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: رَبِّ سَمِعْتُكَ- وَأَنَا فِي الدُّنْيَا- وَأَنْتَ تُقِيلُ الْعَثَرَاتِ. فَأَقِلِ الْيَوْمَ عَثْرَتِي. فَتُرِكَ فِي الْجَنَّةِ.وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ حَدَّثَنَا صَالِحٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ قَالَ: قَالَ مُوسَى: إِلَهِي، كَيْفَ أَشْكُرُكَ، وَأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتَهَا عِنْدِي مِنْ نِعْمَتِكَ لَا يُجَازِيهَا عَمَلِي كُلُّهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، الْآنَ شَكَرْتَنِي.فَهَذَا الْمَعْنَى الصَّحِيحُ مِنِ انْدِرَاجِ حَظِّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ.وَلَهُ مَحْمَلٌ آخَرُ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ ذَاتَ الْعَبْدِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ وَقُوَاهُ وَحَرَكَاتِهِ: كُلَّهَا مَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ، مَمْلُوكَةٌ لَهُ، لَيْسَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ مِنْهَا شَيْئًا. بَلْ هُوَ مَحْضُ مُلْكِ اللَّهِ. فَهُوَ الْمَالِكُ لَهَا، الْمُنْعِمُ عَلَى عَبْدِهِ بِإِعْطَائِهِ إِيَّاهَا. فَالْمَالُ مَالُهُ. وَالْعَبْدُ عَبْدُهُ. وَالْخِدْمَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَهِيَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَالْفَضْلُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَمِنَ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ.قَوْلُهُ وَيَعْرِفُ نِهَايَاتِ الْخَبَرِ فِي بِدَايَاتِ الْعِيَانِ الْخَبَرُ: مُتَعَلَّقُ الْغَيْبِ. وَالْعِيَانُ مُتَعَلَّقُ الشَّهَادَةِ. وَهُوَ إِدْرَاكُ عَيْنِ الْبَصِيرَةِ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ، وَثُبُوتِ مَخْبَرِهِ.وَمُرَادُهُ بِبِدَايَاتِ الْعِيَانِ أَوَائِلُ الْكَشْفِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ. وَمَقْصُودُهُ: أَنْ يَرَى الشَّاهِدُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ بِقَلْبِهِ عِيَانًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} وقال تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} فَقَدْ قَالَ: أَفَمَنْ رَأَى بِعَيْنِ قَلْبِهِ أَنَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ هُوَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ ذَلِكَ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَصْدِيقَ الْخَبَرِ وَالْيَقِينَ بِهِ يُقَوِّي الْقَلْبَ، حَتَّى يَصِيرَ الْغَيْبُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدِ بِالْعَيْنِ. فَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ: كَأَنَّهُ يَرَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، مُطَّلِعًا عَلَى عِبَادِهِ نَاظِرًا إِلَيْهِمْ، يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ. وَيَرَى ظَوَاهِرَهُمْ وَبَوَاطِنَهُمْ.وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُهُ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ. وَيُكَلِّمُ بِهِ عَبْدَهُ جِبْرِيلَ، وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ بِمَا يُرِيدُ، وَيُدَبِّرُ أَمْرَ الْمَمْلَكَةِ. وَأَمْلَاكُهُ صَاعِدَةٌ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِهِ بِهِ.وَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، وَهُوَ يَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَضْحَكُ وَيَفْرَحُ، وَيُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ بَيْنَ مَلَائِكَتِهِ، وَيَذُمُّ أَعْدَاءَهُ.وَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ وَيُشَاهِدُ يَدَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ، وَقَدْ قَبَضَتْ إِحْدَاهُمَا السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ، وَالْأُخْرَى الْأَرَضِينَ السَّبْعَ. وَقَدْ طَوَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِيَمِينِهِ، كَمَا يُطْوَى السِّجِلُّ عَلَى أَسْطُرِ الْكِتَابِ.وَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، وَقَدْ جَاءَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ. فَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِ. وَنَادَى- وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ- بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي: لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ».وَكَأَنَّهُ يُسْمِعُ نِدَاءَهُ لِآدَمَ «يَا آدَمُ، قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ» بِإِذْنِهِ الْآنَ، وَكَذَلِكَ نِدَاؤُهُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} وَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟وَبِالْجُمْلَةِ: فَيُشَاهِدُ بِقَلْبِهِ رَبًّا عَرَّفَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَمَا عَرَّفَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَدِينًا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ. وَحَقَائِقَ أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ. فَقَامَ شَاهِدُ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ كَمَا قَامَ شَاهِدُ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَهْلُ التَّوَاتُرِ- وَإِنْ لَمْ يَرَهُ- مِنَ الْبِلَادِ وَالْوَقَائِعِ. فَهَذَا إِيمَانُهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعِيَانِ، وَإِيمَانُ غَيْرِهِ فَمَحْضُ تَقْلِيدِ الْعُمْيَانِ.قَوْلُهُ وَيَطْوِي خِسَّةَ التَّكَالِيفِ لَيْتَ الشَّيْخَ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِغَيْرِهَا. فَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَقْبَحُ مِنْ شَوْكَةٍ فِي الْعَيْنِ، وَشَجًى فِي الْحَلْقِ. وَحَاشَا التَّكَالِيفَ أَنْ تُوصَفَ بِخِسَّةٍ، أَوْ تَلْحَقَهَا خِسَّةٌ. وَإِنَّمَا هِيَ قُرَّةُ عَيْنٍ، وَسُرُورُ قَلْبٍ، وَحَيَاةُ رُوحٍ. صَدَرَ التَّكْلِيفُ بِهَا عَنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. فَهِيَ أَشْرَفُ مَا وَصَلَ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَثَوَابُهُ عَلَيْهَا أَشْرَفُ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ لِلْعَبْدِ.نَعَمْ لَوْ قَالَ: يَطْوِي ثِقَلَ التَّكَالِيفِ وَيُخَفِّفُ أَعْبَاءَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَلَعَلَّهُ كَانَ أَوْلَى، وَلَوْلَا مَقَامُهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ لَكُنَّا نُسِيءُ بِهِ الظَّنَّ.وَالَّذِي يَحْتَمِلُ أَنْ يُصَرَّفَ كَلَامُهُ إِلَيْهِ وَجْهَانِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّفَاءَ- الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ- لَمَّا انْطَوَتْ فِي حُكْمِهِ الْوَسَائِطُ وَالْأَسْبَابُ. وَانْدَرَجَ فِيهِ حَظُّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ: انْطَوَتْ فِيهِ رُؤْيَةُ كَوْنِ الْعِبَادَةِ تَكْلِيفًا. فَإِنَّ رُؤْيَتَهَا تَكْلِيفًا خِسَّةٌ مِنَ الرَّائِي. لِأَنَّهُ رَآهَا بِعَيْنِ أَنَفَتِهِ وَقِيَامِهِ بِهَا. وَلَمْ يَرَهَا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَقَامِ «فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي» وَلَوْ وَصَلَ إِلَى ذَلِكَ لَرَآهَا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَلَا خِسَّةَ فِيهَا هُنَاكَ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّ نَظَرَهُ قَدْ تَعَدَّى مِنْ قِيَامِهِ بِهَا إِلَى قِيَامِهَا بِالْقَيُّومِ الَّذِي قَامَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ. فَكَانَ لَهَا وَجْهَانِ.أَحَدُهُمَا: هِيَ بِهِ خَسِيسَةٌ. وَهُوَ وَجْهُ قِيَامِهَا بِالْعَبْدِ، وَصُدُورِهَا مِنْهُ.وَالثَّانِي: هِيَ بِهِ شَرِيفَةٌ. وَهُوَ وَجْهُ كَوْنِهَا بِالرَّبِّ تَعَالَى وَأَوَّلِيَّتِهِ، أَمْرًا وَتَكْوِينًا وَإِعَانَةً. فَالصَّفَاءُ يَطْوِيهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ خَاصَّةً.وَالْمَعْنَى الثَّانِي، الَّذِي يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: أَنَّ الصَّفَاءَ يَشْهَدُهُ عَيْنُ الْأَزَلِ، وَسَبْقُ الرَّبِّ تَعَالَى، وَأَوَّلِيَّتُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ. فَتَنْطَوِي فِي هَذَا الْمَشْهَدِ أَعْمَالُهُ الَّتِي عَمِلَهَا. وَيَرَاهَا خَسِيسَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَيْنِ الْأَزَلِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَنْطَوِي أَعْمَالُهُ، وَتَصِيرُ- بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْعَيْنِ- خَسِيسَةً جِدًّا لَا تُذْكَرُ. بَلْ تَكُونُ فِي عَيْنِ الْأَزَلِ هَبَاءً مَنْثُورًا، لَا حَاصِلَ لَهَا.فَإِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ التَّكْلِيفِ يَتَلَاشَى جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَزَلِ. وَهُوَ وَقْتٌ خَسِيسٌ حَقِيرٌ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا حَاصِلَ لَهُ. وَلَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ فِي مِقْدَارِ الْأَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ. وَهِيَ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ يَسِيرٌ جِدًّا. بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ يَسِيرٌ جِدًّا. بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَيْنِ الْأَزَلِ.فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ مَعَ قَلَقِهِ. وَقَدِ اعْتَرَاهُ فِيهِ سُوءُ تَعْبِيرٍ. وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهَا الْخِسَّةَ لِقِلَّتِهَا وَخِفَّتِهَا. بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ الْمُكَلِّفِ بِهَا سُبْحَانَهُ. وَمَا يَسْتَحِقُّهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: رَأَسَهُ; إِذَا أَصَابَ رَأْسَهُ، وَبَطَنَهُ وَظَهَرَهُ; إِذَا أَصَابَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ، وَأَمَّهُ; إِذَا أَصَابَ أُمَّ رَأْسِهِ.وَأَمَّا الِاسْتِبْشَارُ: فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْبُشْرَى. وَالْبِشَارَةُ: هِيَ أَوَّلُ خَبَرٍ صَادِقٍ سَارٍّ.وَالْبُشْرَى يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: بِشَارَةُ الْمُخْبِرِ. وَالثَّانِي: سُرُورُ الْمُخْبَرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. فُسِّرَتِ الْبُشْرَى بِهَذَا وَهَذَا. فَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ».وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُشْرَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: هِيَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَأْتِيهِمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِالْبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَفِي الْآخِرَةِ: عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ إِذَا خَرَجَتْ يَعْرُجُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ، تُزَفُّ كَمَا تُزَفُّ الْعَرُوسُ، تُبَشَّرُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ.وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ. وَفُسِّرَتْ بُشْرَى الدُّنْيَا بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ، يَجْرِي لَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ. وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ.فَالثَّنَاءُ: مِنَ الْبُشْرَى، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الْبُشْرَى، وَتَبْشِيرُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنَ الْبُشْرَى. وَالْجَنَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْبُشْرَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.قِيلَ: وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي بَشَرَةِ الْوَجْهِ. وَلِذَلِكَ كَانَتْ نَوْعَيْنِ: بُشْرَى سَارَّةٌ تُؤَثِّرُ فِيهِ نَضَارَةً وَبَهْجَةً، وَبُشْرَى مُحْزِنَةٌ تُؤَثِّرُ فِيهِ بُسُورًا وُعُبُوسًا. وَلَكِنْ إِذَا أُطْلِقَتْ كَانَتْ لِلسُّرُورِ. وَإِذَا قُيِّدَتْ كَانَتْ بِحَسَبِ مَا تُقَيَّدُ بِهِ.قَوْلُهُ وَهُوَ أَصْفَى مِنَ الْفَرَحِ وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَفْرَاحَ رُبَّمَا شَابَهَا أَحْزَانٌ، أَيْ رُبَّمَا مَازَجَهَا ضِدُّهَا. بِخِلَافِ السُّرُورِ.فَيُقَالُ: وَالْمَسَرَّاتُ رُبَّمَا شَابَهَا أَنْكَادٌ وَأَحْزَانٌ فَلَا فَرْقَ.قَوْلُهُ: وَلِذَلِكَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِاسْمِهِ فِي أَفْرَاحِ الدُّنْيَا فِي مَوَاضِعَ يُرِيدُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَبَ الْفَرَحَ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وقوله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}. فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا تَتَخَلَّصُ أَفْرَاحُهَا مِنْ أَحْزَانِهَا وَأَتْرَاحِهَا أَلْبَتَّةَ. بَلْ مَا مِنْ فَرْحَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا تَرْحَةٌ سَابِقَةٌ، أَوْ مُقَارِنَةٌ، أَوْ لَاحِقَةٌ. وَلَا تَتَجَرَّدُ الْفَرْحَةُ. بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَرْحَةٍ تُقَارِنُهَا. وَلَكِنْ قَدْ تَقْوَى الْفَرْحَةُ عَلَى الْحُزْنِ فَيَنْغَمِرُ حُكْمُهُ وَأَلَمُهُ مَعَ وُجُودِهَا. وَبِالْعَكْسِ.فَيُقَالُ: وَلَقَدْ نَزَلَ الْقُرْآنُ أَيْضًا بِالْفَرَحِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ فِي مَوَاضِعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ.قَوْلُهُ: وَوَرَدَ اسْمُ السُّرُورِ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي حَالِ الْآخِرَةِ.يُرِيدُ بِهِمَا: قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}.فَيُقَالُ: وَوَرَدَ السُّرُورُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا فِي مَوْضِعٍ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا}.فَقَدْ رَأَيْتَ وُرُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ فِي الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ. فَلَا يَظْهَرُ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّرْجِيحِ.بَلْ قَدْ يُقَالُ: التَّرْجِيحُ لِلْفَرَحِ: لِأَنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوصَفُ بِهِ. وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهُ دُونَ السُّرُورِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَكْمَلُ مِنْ مَعْنَى السُّرُورِ، وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} وَأَثْنَى عَلَى السُّعَدَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} وقوله: {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} فَعَدَلَ إِلَى لَفْظِ السُّرُورِ لِاتِّفَاقِ رُءُوسِ الْآيِ. وَلَوْ أَنَّهُ تَرْجَمَ الْبَابَ بِبَابِ الْفَرَحِ، لَكَانَ أَشَدَّ مُطَابَقَةً لِلْآيَةِ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا. وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ. فَالْمَقْصُودُ أَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ.
|